ولادة جســــد

فاطمة المزروعي
تعتادُ على حياتك، لحظة إثر لحظة، تجدُ نفسك تلقائياً وأنت تمارسها يومياً، تتنفس، تأكل، تشرب، تسمع، تنظر، تحلم، تسير مشياً إلى عملك، وأحياناً توقف سيارة أجرة ، وتركبها ، متحملا وبصدق رائحة عرق سائقها الكريهة ،تمر الأيام، يوماً وراء يوم، وشهراً وراء شهر، وعاماً أثرعام، وأنت تمارس أمورك العادية ، ككل الناس ، بمختلف مستوياتهم الثقافية والعقلية، أعواماً كثيرة مرتْ من حياتك، تنتظر النهاية، وفي داخلك تعلم بأنك سوف تصل ُ إليها، لن تظل الوقت كله تعيش حياتك، بنفس العملية التي اعتدت عليها، لابد من نهاية لوجودك، لقد مات الكثيرون من رفاقك، ولا يزالون يسيرون بالتوالي إلى طريق الموت، أصداء ذكرياتهم تملأ عقلك الفارغ، ويدك وبشكل تلقائي تحذف أسماءهم بقلمك الأزرق الجاف ، فتتذكر الجنازات التي حضرتها مذ فتحت عينيك، يسحبونك من يديك، يجبرونك على الحضور إلى القبور الباردة، الموحشة، تظن أن الحياة كلها موت وغرق ومحن وحروب وضحايا
 أعبر الشارع، اجتازه على قدمي، أمر بشوارع كثيرة، تبدو أمامي متشابكة، تغرق في بعضها البعض، يرتادها صنوف من الناس، يتحركون، يبدون كالنمل، أعودُ فأرقبها هذه المرة بمنتهى الدقة، محاولاً أن أسترجع أسماء المحلات والسيارات والأشخاص وحتى الكلاب والقطط عندما كنتُ صغيرا ..
 
 
كان في البداية، يريدُ أن يعمل أي شيء، فلم يكن لديه أية طموح بأن يصل إلى مرتبة كبيرة، فقط أن يعمل ويكون أسرة، ثم أصبح يبيع الجرائد، كان ينزل في الشارع، يمسك بالجريدة، ينادي في الطرقات، ينادي، العناوين الرئيسية كل يوم يقرأها بصوت عال، فتدوي في رأسه، لم يكن يصرخ حتى يخبرهم بمحتوى الجريدة، ولكن لإنه إعتاد أن يجعل الناس يهتمون بقراءة الأخبار علهم يستوعبون ولو بقليل ما بها..
 
كان من عادته أن يطوف المدينة على قدميه، حاملاً تحت إبطيه كومة من الجرائد، وفي اليد الأخرى جريدة، يلوح بها، مشيراً كالعادة إلى الأحداث الجسيمة التي تحتويها، كان يمشي بتأن، والجوع ينهش معدته، يمر من أمام مطعم، يشاهد الناس فيه، وفي داخله يحسدهم على حياتهم، على حياة الثراء وعدم الشعور بمفاهيم كثيرة، هو يدركها، يشعر بها، ربما لأن معدته خاوية، لفظ إنتباهه الرجل البدين الذي خرج من المطعم حاملاً في يديه كيس كبير ملي بالسندويشات، هاله منظر كتلة الشحم المتحركة أمامه، نظر إليه بتقزز، يا لهم من قذرين، أجسادهم تملأ هذه المدينة بالروائح النتنة، تذكر نفسه كيف أنه لم يتناول في اليوم كله سوى رغيف يأخذه من أجره بيع الجرائد، هكذا نحن أبناء الخبز، إنه الخبز الذي لا يأكله سوى الفقراء أمثالنا ..
دار في رأسه هذا الخاطر، وهو يعود خاوي اليدين إلى منزله، بعد يوم طويل حاط فيه بساقيه المتعبتين المدينة بأكملها، كان يحفظ أجزائها، شوراعها، حتى أماكن القمامة فيها، وجوه أشخاصها، ملامحهم التي تتباين بين التجهم والفرح، يأتي الصيف، تزداد الحرارة، تولد في نفسه أشياء، وتموت  أشياء أخرى في هذه الأزقة وهو على حالته، راض بهذه المهنة الوضيعة ، يحاول أن يخفف الحرارة التي بدأتْ تشتعل في جوفه، يعطش جسده أكثر، يودّ لو تطل أمامه حديقة ورافة بالظلال حتى تسكتْ عطشه ..
 
أحرك قدمي وأنا أجتاز المنازل نصف المتهدمة، أقسم أن لا أحد من هذه الجثث المترفه تأبه لنا، حتى وأن ضرب واحد من المغفلين الأثرياء بيتا من بيوتنا بسيارته الفارهة، سوف يهرع لسيارته خوفاً عليها، دون أن يهتم للضحايا ..
 
سقف منزلنا المتهدم، ومنازل أخرى بجوارها، الحارة الغارقة في المجاري، ومنظر الأطفال الصغار والنساء بملابسهن الطويلة، وهن يلتقطن المياه بالجرادل والأواني الصدئة، والصراصير والفئران التي تختبأ في الثقوب، إنها مثلنا دون ذاكرة ، دون أحلام ، ولامستقبل ، سوى أن تأمن لنفسها الطعام  في هذه اللحظة ، وفي الليل تخرج، تبحثُ عن طعامها، تجتاز الوجوه المتعبة، كالعادة، لتبدأ جولتها الليلية بأمان، وهي تعلم بأنها لن تتعرض لضيق من أحدنا، لأننا أشبه بالجثث الميتة، وأحيانا كنا نشعر بأقدام الكبار وهي تطأ علينا، دون أن تشعر حتى بأجسادنا ..
 
الصباح يأتي، تولد أمور في حياة الناس، وتموت أخرى، تعود تتنفس، وتأكل وتشرب وتنام وتحملق في الشابات الصغيرات اللواتي يحملن حقائبهن، تعجب بقوامهن الرشيق،فتعود بذاكرتك إلى كومة المجلات النسائية على سريرك ، تطفئ بها رغبتك الليلية ممنيا أن يلامس طرف من اصبعك خد واحدة .
ويبدأ عملي كالمعتاد في بيع الجرائد، أطوف المدينة، أنادي على الأخبار اليومية، ربما هذا حالي لو كنتُ حياً، ولكنني الآن في مقبرتي ذات الرائحة المتعفنة، على طرف المنازل المتهدمة، والتي كنتُ أعيش فيها يوماً ..
 
(أنــــــــفاس متعبة )
  
... كان قدومهما إلى منطقتنا شيئاً لم نعتد عليه، كلاهما بلا رجل، امرأة ذات وجه طويل، وعينان غائرتان، تبدو واهنة الجسد، أصابع يديها، ملفته بشكل واضح، تجعلك تلتفت بغتة لتنظر إليها، تجرُ طفل في العاشرة من عمره، يحمل حقيبة سوداء صغيرة، يحضنها إلى صدره بخوف، ويد أخرى يحتضن بها يد المرأة، هذا ما يتذكره سكان المنطقة، وقت قدومها أول يوم..
 
لقد أستأجرا الطابق العلوي في بيت امرأة عجوز، طاعنة في السن، في البداية كانت نظراتها تكاد تنفذ من خلال أجسادهما، نظرة بها تشكك واستغراب، شابة في الثلاثين ومعها طفل صغير..
 
كانت المرأة العجوز تسمعهما في الليل، بعد عودة الأم وهما يتحدثان طويلاً، تظل المرأة تتكلم دون ملل، تتحدث عن حياتها وفترة مراهقتها، وكيف ضربتها المعلمة ذات يوم وهي طفلة، لأنها لم تحل الواجب؟ وقد ظلت تبكي طيلة اليوم، رغم محاولات جدتها إسكاتها، وإعطائها الكثير من السكاكر، ولكنها اعتبرت ذلك العقاب، بمثابة شيء يمس كرامتها ويهين كيانها..
 
ثم تستمر في الكلام عن مغامراتها، في المدرسة أوخارجها ، تتذكر وجه الشاب الذي أطل بغته من خلف الباب ، يرمقها بنظرة دهشة ، حينما كانت تجمع التوت والنبق، وتخطفه خطفا، وتدسه دسا في جيوبها، وعندما تناهى لمسامعها صوته، أسرعت تلوذ بالفرار ، وهي تلهث خوفا أن يكون قد لحق بها، وفي البيت اكتشفت أن جيوبها كلها كانت ممزقة ، وقد نسيت خياطتها ..
 
وأطلقت الأم ضحكة عابثة، وكأن روايتها لتاريخ حياتها، بهذا الشكل، يجلب لها نوع من التسلية، وتمضية وقت الفراغ، وكان الصغير في بعض الأحيان  يستمع لها بإنصات،ولكنه أحيانا يبدو وكأنه مجبر على الاستماع، فكان يحرك قدميه في تملل، أو يهز رأسه بالإيجاب، وكان ينام قبل أن تكمل سرد أغلبية حكاياتها؛
فتظل جالسة على فراشها، وتخلع ملابسها دون أن تأبه لوجوده ، أو عينيه اللتين تعبثان ببراءة في تفاصيل جسدها ، وهي تتحسس هذا الجسد المفعم بالشهوة في مرارة، ثم تنطلق في نوبة بكاء حار، و أحيانا كانت تفعل ذلك، دون أن تدري  حقا بأن هناك عينان صغيرتان ترمقانها في فضول، وترقب من تحت اللحاف...
 
كانت العجوز تلتصق بالباب، تحاول التصنت لتعرف حكايتها، وكم تقربت منها محاولة أن تعرف والد الطفل، ولكن الأم تغير الموضوع، أو تجيب بنعم أو لا..
وفي بعض الأحيان تنقض الأم على وليدها، فتضربه في قسوة، وتشد شعره، وتعاقبه بالوقوف طيلة الوقت لأنه لم يسمع كلامها، وخرج ليلعب مع زملائه، وقد نهته عن ذلك..
 
وبعد برهة تتحول المرأة إلى عالم آخر متناقض، تثير دهشة الصغير نفسه، فتبدأ تحدثه عن ألمها وحزنها، وتعبها في عملها، ومضايقة الرجال لها، فتبكي في حضن الصغير، الذي يكتفي بأن يرمقها بنظرات ضائعة..
 
كانت المرأة العجوز قد بدأت تنشر عنها شائعة، بأنها قد أنجبت الطفل عن طريق الزنا، فلقد سمعت المرأة تحدثها بذلك عن طريق الخطأ، حينما اشتد بها الحزن، وضاقت الدنيا بها، وإنها تسمع في منتصف الليل صوت تأوهاتها، وأصوات خشنة أخرى تتصاعد من الطابق العلوي..
 
وفي المدرسة لا يقل الأمر عن ذلك، فالصغير يواجه حصار لا ينتهي من زملائه في أغلب الأوقات،
- هل تجيد لعبة (طاق طاق طاقية )؟
- كنت ُ ألعبها وأنا صغير.
- مع والدك.
- كلا.
- أين والدك؟
- لا أعلم.
- ألم تره قبل أن تأتي إلى منطقتنا ؟
- لا.
-أنت كاذب.
- لا، لستُ كذلك.
- والدتك امرأة تعاشر الرجال.
- هذا ما قالته والدتي عنها.
- إنها امرأة حقيرة، سمعتها سيئة.
- لا ليست كذلك.
- إذا كان لديك والد، فأين هو..
- لا أدري.
- إذا لماذا جئتما إلى هنا ؟
- من أجل العمل، هكذا قالت لي أمي، نحن نحتاج إلى المال حتى نسد به جوعنا.
 - والدتك تكذب، أي عمل هذا اللي تتحدث عنه، إنها لا تعمل، إنها تستجدي المال من
 الرجال.
- كلكم تكذبون، أمي انسانة رائعة، إنها تعمل من أجلي.
- أنت تبكي، أنت لست رجلاً.
- لا، أنا رجل، أمي قالت ذلك.
- لست رجلاً، أنت فتاة، لأنك تبكي.
- لا تدفعني، ابتعد عني.
- أنت تربية والدتك؟ لا بد أن تبكي مثلها، إنني أكاد أقسم إنها تبكي كل لحظة، بعدما فعلت جريمتها.
- أمي انسانة رائعة، لن أسمح لك بأن تتلفظ بأي كلام يسيء لها.
- إنها تعاشر كل الرجال، قل إنها حقيرة..
- قلت لكم لا تدفعوني، اتركوني..
 
وكاد الأطفال أن يدفعوه، عندما تدخل بعض الكبار، حتى يفكوا المشاجرة التي أخذت تسير خطا آخرا، هو مزيج من الضرب واللكمات..
 
كان الكبار يستمعون إليه، فتدخلوا أثناء حواره مع زملائه..
- من يزورها في الليل يا بني ؟
- لا أعرف.
- أنت تعرف، فأنت لا تبارح المنزل طيلة اليوم إلا للمدرسة.
- هيا أخبرنا، فالعجوز تؤكد إنها رأت ظل رجل يزورها في منتصف الليل.
- لا أعلم، إني أنام معها، ولم أرى أحدا.
- وفي المساء أين تذهب؟
- إلى العمل.
- أي عمل، وهي متبرجة، وترتدي ملابس مكشوفة.
- لا أعلم.
- أنت كاذب. لم تخفي الأمر عنا، نحن نعلم كل شيء، هي تعاشر الرجال، وتأخذ أموال منهم، حتى تصرفها عليك أيها الغبي، تترزق من هذا العمل وأنت لا تعلم.
- هه هه، أنتم تكذبون.
- ولم نكذب. أنت ولد حرام، ليس لك والد.
- كذب، لقد رأيت والدي عندما كنت صغيرا .
- وأين هو الآن؟
- لا أعلم، صدقوني.
- كاذب، تريد أن نصدقك، لقد سجلتك والدتك في المدرسة باسمها، مؤكدة بأن أوراقك كلها قد ضاعت أثناء رحلتكما، ولكننا لا نصدق ذلك.
- أنتم أحرار، ولكن أمي طاهرة، أمي أحسن امرأة في الكون.
- أنت صغير ولا تعلم شيئا.
- لستُ صغيرا، أنا رجل وأمي انسانة رائعة، كافحت حتى تحميني، وأصبح رجلا...
 - قلت لكم لا تدفعوني، أتركوني لوحدي ..
- أسأل والدك عن والدتك، ربما تركها لأنها تخونه في غيبته.
- هه هه..
- أنت تشبه البنات في ذلك، إنها لم تربيك..
- تريد علقة، سوف تأخذها على يدي..
يحدث شجار كبير بينه بين زملائه، يأخذ علقة ساخنة من أحدهم..
 
هكذا كان الصغار يضايقونه، ولا يقل الكبار عنهم في الأذى، من حين إلى آخر، وتجري الأمور بنفس الطريقة وبنفس الروتينية كل يوم..
 
عند المساء يروي الصغير كل ما حدث له في المدرسة لوالدته، تسرح الأم للبعيد، إنها تعرف إنه هناك في الضفة الأخرى، من هذه الدنيا، ولكنه الآن قد نساها، وربما في أحضان امرأة أخرى، هي أرادت أن تخبره بطفولتها، بجده، وجدته، وحياة المدرسة..
في منتصف الليل، كانت العجوز كعادتها تضع أذنها على باب غرفتها، تنصت في اهتمام لحديث الأم مع ولدها، وشملها الذهول هذه المرة، فقد كانت تسمع أصوات أقدام تنزل من على السلالم، يتبعها صوت آخر لحقيبة سوداء وأنفاس متعبة، تحاول اللحاق بقطار الحياة..

0 التعليقات:

إرسال تعليق